موقف المحكمة حرج.. ولا مكان للتسويات أو "تبويس اللحى"
موقف المحكمة حرج.. ولا مكان للتسويات أو "تبويس اللحى"
البناء /// 14 - 9 - 2010
محمد شمس الدين
المعركة الشرسة التي يخوضها لبنان ضد "شهود الزور" في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، قد دخلت في مراحلها الحرجة على ما يبدو بعد الكلام الذي أطلقه مدير عام الأمن العام السابق اللواء الركن جميل السيّد في مؤتمره الصحافي الأخير، وكشف خلاله التصدّع الكبير في أسس الدولة في لبنان وما بلغته من اهتراء، لا سيّما طريقة التعاطي بين الحكومة ورئيس الجمهورية في قضية ضباط الأمن العام الذين أُعيدوا الى الجيش وحصلوا على حكم مبرم من مجلس شورى الدولة بإعادتهم الى وظائفهم في الأمن العام.
لكن دعوة السيّد الناس الى التظاهر والنزول الى الشوارع على خلفية العديد من القضايا المطلبية التي تمسّ حياتهم، إنما تحمل دلالات خاصة في هذه الفترة من عمر الحكومة التي لم تنجز حتى الآن سوى ما يعتبره رئيسها تجاوزاً لمرحلة استعداء سورية بعد أكثر من أربع سنوات على توجيه الطعنات إليها، مع الاحتفاظ بكامل الهامش في التلاعب بمصير البلد تحت عنوان المحكمة الدولية آخر الأوراق "المدمّرة" في محفظة الحريري، من دون الشعور بمدى فداحة ما يتم التحضير له لإسقاط البلد في أتون الفتنة التي ستصيب بالدرجة الأولى مسار رئيس الحكومة السياسي، كما ستهدّد مصالحه المباشرة وغير المباشرة في لبنان كما في المنطقة والعالم بحسب مصادر سياسية متصلة مباشرة بالملف. وقد أشارت هذه المصادر الى أن قضية شهود الزور واستخدام المحكمة من أجل تحقيق أهداف سياسية يبدو أنه لن يمرّ من خلال بعض التصريحات الفارغة أو التسويات التي من الممكن أن يراهن عليها البعض عبر علاقاته مع هذه الدولة أو تلك لأن الأمور قد خرجت عن سيطرة أولئك الذين أرادوا في المرحلة السابقة استغلال المحكمة وما يتصل بها من أجل تنفيذ مشروع سياسي ضخم في المنطقة.
كل المؤشرات تدل على أنه لم يعد من السهل التحكّم بمسار المحكمة لتنفيذ برامج سياسية خارجية أو داخلية، في حين ان التمسك بها ستكون له انعكاساته على الوضع الداخلي تحديداً في ظل تفاهم القوى الخارجية على تجنب كل تأثيراتها على العلاقات في ما بينها وخصوصاً بين المملكة السعودية وسورية، وهو ما أكده كلام اللواء السيّد بالأمس من دون الإشارة إليه مباشرة، كما تؤكده وقائع اللقاءات السعودية السورية وآخرها القمة الثلاثية في بيروت التي استطاعت جعل لبنان يتجاوز قطوع القرار الظني، وكما تؤكده أيضاً لقاءات الحريري مع الرئيس بشار الأسد حيث يكتفي رئيس الحكومة اللبنانية بتطمين سورية الى نواياه في قضية المحكمة في حين يترك المجال مفتوحاً لاستخدامها عصاً غليظةً في الداخل من دون أن يلتفت الى حجم التداعيات التي من الممكن أت تتركها على الاستقرار.
وهنا تلفت المصادر عينها الى أن ما صدر عن الحريري قبل العيد في موضوع تبرئة سورية، لم يكن سوى من قبيل زلة اللسان لأنه لم يستطع حتى الآن تلقف تداعياته داخل صفوف حلفائه الذين تلقوا منه أكثر من رسالة تطمين حملها مقربون منه إليهم مع بعض المساعدة من دبلوماسيين عرب ودوليين، لكن ذلك لم يفلح في تهدئة الخواطر بشكل كامل وإنما فتح مجالاً لـ"رفع السعر" في البازار المفتوح بين حلفاء الحريري، كما أن ذلك قد خلق جواً من عدم الثقة خصوصاً عند أولئك الذين ساهموا في صياغة عناصر الاتهام لكل من سورية وحزب الله في قضية الحريري والذين أصبحوا على مسافة قريبة من المساءلة بعد نفاذ القضايا التي رفعت ضدهم الى المحاكم في فرنسا وسورية.
ما يؤكد هذا الاتجاه هو ما قاله اللواء السيّد حول لائحة الاستدعاءات للأسماء الـ34 التي وجهها القضاء السوري للإستماع إليها والتي لم تُلبَّ حتى الآن في حين ان عدم تلبيتها سينقلها الى مرحلة تسطير مذكرات توقيف غيابية. وتشير المصادر في هذا السياق، الى أن القضاء السوري يتمتع بهامش واسع من الحرية في متابعة هذه القضية وهو ما توفره له التفاهمات مع السعودية التي أعطت أيضاً هامشاً للحريري في متابعة البحث عن قتلة والده، الأمر الذي احترمته وتحترمه دمشق. غير أن هذه الأخيرة حافظت بالحد الأقصى على حقوق باقي الأطراف في تحصيل حقوقهم والدفاع عن أنفسهم بكل الطرق المناسبة خصوصاً وأن المسار الذي سلكته هذه القضية منذ البداية قد تعرض للتشويه من أصحابها كما وضع في خدمة الأعداء قبل الأصدقاء.
جملة من الأمور يمكن استخلاصها من كلام اللواء السيّد في مؤتمره الصحافي الأخير، بدءاً من أن الحرب حول المحكمة مستمرة الى حين إما سقوطها أو تصحيح مسارها الذي يبدأ من خلال رفع الغطاء عن الذين استخدموها لتحقيق أغراض بعيدة كل البعد عن الهدف الذي قامت من أجله وصولاً الى تقديمهم للمحاكمة في ادعاءات لم تثبت صحتها، لا بل تبيّن كذبها في مفصلين أساسيين حتى الآن: توقيف الضباط الأربعة، واتهام سورية. في حين نجح حزب الله في التصدي لمحاولة توريطه من خلال تقديم معادلة القرائن في الحرب التي تشنها "إسرئيل" عليه بجزئها القضائي عبر محكمة الحريري الدولية.
لقد بات الحريري ومَن يحميهم أمام مفترق طرق صعب حيث لن تفلح التسويات هذه المرة، لأن الأمور أصعب من أن تسوّى على الطريقة اللبنانية المعروفة بـ"تبويس اللحى"، لأنها تتصل بمسارات سياسية معقدة تتداخل فيها القضايا المبدئية الكبرى بالمصالح الاستراتيجية وصولاً الى منافع الصغار الشخصية، وهو الأمر الذي ليس من السهولة معالجته بخفة القيمين عليه وأوليائه المفترضين إلا من خلال وقفة مسؤولة مع الذات والضمير تنتج منها قرارات شجاعة تبدأ بالخروج عن الالتزامات الدولية ولا تنتهي بالتخلي عن "الحاشية".
تؤكد المصادر السياسية نفسها وهي متصلة مباشرة بهذا الملف، أن الولايات المتحدة الأميركية قد أوكلت الى فرنسا رعاية المخارج المناسبة في موضوع المحكمة الدولية وأن هذه الأخيرة تتولى ذلك من خلال التفاهم مع سورية والمملكة العربية السعودية وسط إصرار الدول الثلاث على ترك هامش المعالجة الأكبر للبنانيين من دون أن يصيب هذا الهامش الاستقرار الداخلي، وإعطاء الجميع فرصاً متساوية في مقاربة قضية المحكمة التي وضعها اللواء السيّد مع قضاتها في موقف حرج يمسّ مصداقية النظام القضائي للعديد من الدول المتصلة بهذه القضية، عدا المس بنزاهة واستقلالية القضاء بشكل عام، وهو ما يهزّ أساساً من أسس البشر وشرعة مقدسة من شرائع الشعوب على امتداد الأرض.
تعليقات