"ثورة".. الدولة !!!
مع العودة الى "التدوين"،
لا بد من تحديد نقطة الإنطلاق، وقد ارتأيت أن تكون من خلال العودة الى مسار الحوادث
والتطورات الأخيرة التي يشهدها لبنان منذ انطلاق الحراك الشعبي في 17 تشرين 2019،
والذي قيل حوله الكثير ولم يحسم وصفه، لكن لا بد من القول إن هذا الحراك الذي نتج
عنه سقوط حكومة سعد الحريري والرهانِ عليه كشريك تسوية، لم يكن مفاجئا في ظل ما
كان معلوماً جيدا عن عمليات النهب المنظمة التي كانت تمارسها منظومة الفساد
السياسي والمالي منذ 1993.
هذه "المنظومة"
التي باتت معروفة بالأسماء والتي أسس لها الرئيس الأسبق للحكومة رفيق الحريري
بخلفيات سياسية لم يستطع تحقيقها على مدى أكثر من عقد من الزمن، استمرت بعد مقتله
في 14 شباط 2005 وهي ما زالت مستمرة ومستحكمة بكل مفاصل الدولة حتى اليوم. لا داعي
في هذا السياق إلى تسمية تلك الشخصيات التي رعت وترعى نهج هذه
"المنظومة"، والتي حولت الدولة الى مزرعة تعيث بها الفوضى مستغلة عناوين
سياسية براقة طالما شكلت مطلباً حيوياً بالنسبة الى أعداء لبنان من الأميركيين
والإسرائيليين للنيل من المقاومة في لبنان وعلى رأسها حزب الله.
لكن ما يجب قوله وإخراجه
من دائرة النقاش الخاص الى العام هو كيفية التعامل مع حدث الحراك الذي فاجأ الجميع
وأربكه في آن منذ بدأ، ما جعله يُفلت من كل الضوابط عدا المتربصين بالبلاد شراً.
كان لا بد للقوى الوطنية الحية الإمساك بالحراك وتوجيهه بالإتجاه الصحيح الذي يجب
أن يسلكه وقطْع كل يد خبيثة من شأنها حرفه عن مقاصده الشريفة في تصحيح مسار
الأوضاع في لبنان على الصعيدين الإقتصادي والإجتماعي، والوقوف خلف هذا الحراك
لمحاصرة منظومة الفساد تلك من دون حرج وبأقل كلفة ممكنة من الخسائر على قاعدة
"أكل العنب من دون قتل الناطور".
إن التطورات التي حصلت من
خلال تشكيل حكومة أمر واقع برئاسة حسان دياب، جاءت بعد الفشل في إعادة إحياء تسوية
معدلة مع شخص سعد الحريري الذي راهن على قدرة المطالبين به إعادة فرضه على رأس
السلطة التنفيذية بحد أقصى من شروطه، إلا أن أداء رئيس الجهورية في التعاطي مع
الأزمة قد مكنه من فرض صيغته على حلفائه و"حلفائهم" في استيلاد الحكومة
الحالية والتي تحاول أن تقتطع من الضعف قوة لمواجهة الملفات المستعصية على الحل
،وسط مراكمة الضغط عليها لإخراجها.
أصبحت المعركة مكشوفة بين
منظومة الفساد والنهج الجديد الذي تحاول الحكومة ترسيخه في التعاطي مع الأزمة. ففي
حين ارتاح "الحلفاء" الى أداء جديد يفترض أنهم كانوا تواقين له، استشرست
"المنظومة" في الدفاع عن مكتسباتها وبالتالي مواقعها، لِما لخسارتها في
حال حصلت من تداعيات موجعة عليها سياسياً وماليا وأخلاقيا، وهذا بحد ذاته ما سيشكل
عنصرا مستمرا في وضع العراقيل في وجه الحكومة وأدائها، وخير دليل عليه أداء حاكم
مصرف لبنان رياض سلامة في موضوع الخسائر الذي مُني بها "المركزي" من
ناحية، وأموال المودعين في المصارف، والتي بات مشكوكا بحسب المعلومات في إرجاعها
كاملة برغم كل التطمينات من ناحية اخرى. إن سقوط سلامة سيُسقط من يقف خلفه من
سلطات متعددة الوجوه لها ما لها من القوة الفائقة داخلياً وخارجياً.
وهنا لا بد من طرح السؤال
حول ما أدلى به ديفيد شينكر منذ ايام قليلة لقناة "الحدث" السعودية من
أن حاكم المركزي في لبنان تعاونَ مع الأميركيين بشأن حسابات مصرفية قال إنها لحزب
الله أو لأحد أفراد بيئته ومصارف تفتح أبوابها لمقربين منه. ألا يشكل ذلك إخبارا
للنيابات العامة وكل السلطات في الدولة حول ما يشكله هذا التعاون من مسّ بأمن
الدولة ،ويفتح الباب على مساءلة سلامة في كل ما يُتهم به لا سيما بعد
"المضبطة" المطولة التي تلاها رئيس الحكومة أخيراً؟؟.
من الممكن القول إن ما
بدأته الحكومة من إجراءات لوّحت بها حتى من دون أن تبدأ بتنفيذها، يُعتبر علامة
إيجابية لناحية وضع الأمور في نصابها. إلا أن العبرة تبقى في التنفيذ المحفوف
بمخاطر كبيرة على الصعيدين الإجتماعي والأمني تهدد بها منظومة الفساد نفسها، تارة
بشكل مباشر عبر بيانات "منمقة" كالذي صدر عن فؤاد السنيورة أحد أقطاب
"المنظومة"، وأخرى عبر تسجيلات صوتية توزع عبر وسائل التواصل الإجتماعي
عن تحضيرات عسكرية وأمنية (قوات لبنانية وحزب إشتراكي) في مناطق مختلفة تحت عناوين
شتى، إلا أن هدفها واحد وهو التهويل على الحكومة ورئيسها ومعه رئيس الجمهورية
لثنيهما عن إكمال ما بدآه.
تلك الرسائل موصولة أيضا
الى حزب الله والمقاومة، ومصدرها الجهات نفسها ولكن عبر منابر وأصوات خارجية كتلك
التي صدرت عن الحكومة الألمانية باعتبار حزب الله في ألمانيا منظمة إرهابية، أو
لناحية رفع مستوى التهديدات الإسرائيلية ناهيك عن التحرشات، إلى اتهامه المزعوم
بالفساد وتهريب الأموال والفيول وما إلى ذلك، لكن المستغرب أن تلك الجهات المسؤولة
عن هذه الحملة على حزب الله والمرتبطة بشكل وثيق بمنظومة الفساد لم تتعلم على مدى
عقود من الصراخ أن الحزب ثابت ولا يتأثر
لا هو ولا بيئته بما يسوّقونه عنه وعلى الرغم من تقصيره في التصدي السريع لملفات
كانت ولا زالت موضوع الشغل الشاغل للمجتمع اللبناني بأطيافه كافة.
لن تتردد منظومة الفساد
في إشاعة الفوضى بكل مستوياتها وهي تملك رصيداً كاملا على هذا الصعيد، لا سيما
أنها بذلك تخدم مصالح خارجية تتلاقى معها في هذه اللحظة وطالما عملت على ايصال
الوضع الى تلك المرحلة، ما يوجب على الحكومة وداعميها أن يكونوا جاهزين لتفريغ تلك
المحاولات من مضمونها وربما الإستعداد لضربها دون انتظار، وفي هذا السياق إذا
أسقطنا خيار السلطة في المواجهة، فإن المقاومة وحزب الله حسبما أعلن أمينه العام
السيد حسن نصرالله هو"أقوى طرف على الساحة اللبنانية" فيما لو أراد أحد
العبث، كما أن المقاومة جاهزة لأية حماقة إسرائيلية.
إن اعتبار السيد نصرالله
لحزبه بأنه "أقوى طرف في لبنان" ليس بالضرورة أن يفسر على أنه بالسلاح
فقط، بل إن ما صار إليه الحزب وحليفه رئيس الجمهورية بعد الإنهيار المالي وسرقة
أموال كل الناس والدولة معهم، جعلهما "أقوى طرف" وعماد الحراك الذي
انطلق في 17 تشرين من العام الفائت، بحيث صار بإمكانهما قيادة "ثورة"
مجتمعية منظمة في الشارع ضد الفساد والمفسدين عنوانها استرجاع حقوق الناس في مالهم
ودولتهم.. هل في هذا هنا تكمن قوة الحكومة؟!!