مقدمات "توازن الردع"

مقدمات "توازن الردع"
البناء 16 ايلول 2013
محمد شمس الدين

ثلاثة أيام من "الود" في جنيف بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأميركي جون كيري، كانت كافية لرسم الإطار العام المعلن لتسوية وضع الكيميائي السوري تحت الرقابة الدولية الذي أوجد للأميركيين المخرج اللائق من الإحراج وفتح لهم أبواب التراجع عن شن هجوم عسكري على سورية مجهول الأفق وحجم التداعيات، في وقت تشعر فيه الولايات المتحدة بالتعب الشديد جراء تقهقر وضعها الداخلي على المستوى الإقتصادي، فيما منيت خارجياً بخسارة كبيرة لا سيما في منطقة الشرق الأوسط التي خاضت فيها حتى الآن حروباً سياسية وعسكرية على مدى السنوات الماضية عادت بنتائج إيجابية واضحة على خصومها فيها.

أبرز ما توصل اليه الوزيران "الصديقان اللدودان" في جنيف، استبعاد الحرب الخارجية على سورية. لقد كان كلام الدبلوماسي الروسي المخضرم لافروف شديد الوضوح لهذه الناحية حتى لو لم يعطى حيزه الكامل في إعلان مقررات المحادثات، ولذلك أسبابه وأهمها، عدم إظهار فشل وتراجع الولايات المتحدة التي حافظ رئيسها باراك أوباما وحتى بعد ذلك الإعلان على وتيرة التهديد باستخدام القوة "إذا" لم تلتزم دمشق بما اتفق عليه لجهة تدمير مخزونها من السلاح الكيميائي، لتتحول القضية الى تفصيل بسيط في المشروع الذي "تمخض فولد فأراً".

إلغاء فكرة العدوان على سورية هي "الإنتصار" الأول الدبلوماسي، والعسكري أيضاً، فقد نجح المحور الممانع في تهديد الولايات المتحدة استراتيجياً بوضع صواريخه في مقابل صواريخها. تمت اللعبة بذكاء المحترفين، من روسيا التي تعاملت مع الوضع بهدوء وتصاعد تدريجي في تحركها الحربي، الى إيران التي أرسلت رسائل حازمة بجهوزيتها لدخول الحرب وعدم قبولها بما أبلغت به من أن العملية العسكرية في سورية ستستهدف مواقع "محددة وغير مؤذية" تخدم تنفيذ التهديد الأميركي وليس تغيير موازين القوى، الى سورية التي أظهرت صلابتها وعدم تراجعها "حتى لو أدى ذلك الى حرب عالمية ثالثة" في وقت وضعت سلاحها الصاروخي الإستراتيجي على أهبة الإستعداد للمواجهة ومنه الكيميائي، وصولاً الى حزب الله الذي لعب دوراً قتالياً في سورية واستعد لاستعادة تجربته في لبنان ضد العدو "الإسرائيلي" عام 2006 ضده مجدداَ ومن سورية نفسها وبذات الإستراتيجيات، مع الأخذ بعين الإعتبار تعاظم قدراته التسلحية والعملياتية عما كانت عليه حينها.

لقد أحسنت روسيا التعامل مع ما تراكم من مكتسبات حققها المحور الممانع على مدى أكثر من عقد من الزمن بدأ منذ عام 2000 تاريخ اندحار إسرائيل من جنوب لبنان بعد أكثر من 15 عاماً من المقاومة والحروب، وهزيمة أميركية محققة على يد الإيرانيين في العراق بعد غزوه عام 2003، وانتصار حزب الله في حرب تموز 2006 ضد إسرائيل ما شكل تحولا استرايجياً في إقامة "توازن الردع" ودق الإسفين الاساسي في مشروع الشرق الأوسط الجديد الأميركي، الى صمود سوريا في وجه اشرس حرب دولية خيضت ضدها على سنتين ونصف تقريباً. شعر الروس أنها اللحظة المناسبة للعودة الى ممارسة الدور الذي فقدوه بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، لكن هذه المرة بحرية أكبر بعدما تخلصوا من أثقال عديدة كانوا يحملونها على كاهلهم.

وضعت موسكو خططها التي أوصلتها الى هذه النتائج منذ زيارة نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف الى إيران ولبنان في نيسان الماضي حيث عُرض عليها أن تشكل المظلة الدولية لتحرك سياسي حيال الأزمة في سورية التي هي عنوان أي تغيير مقبل على مستوى العالم خاصة في خضم إعادة رسم جغرافية جديدة قد ينجم عنها تبدلات خطيرة تصبح فيها بعض الدول في خبر كان.

ما اتفق في جنيف عليه من تقديم سورية لسلاحها الكيميائي وتدميره حصلت الأخيرة في مقابله على أكثر من وقف العدوان الخارجي عليها، وهو تعهد أميركي بوقف دعم وتسليح الجماعات المسلحة المتعددة الجنسيات والسورية التي تقاتل في هذا البلد، وهو ما حصل بالفعل ويعتبر من المقررات السرية للإتفاق، حيث عبرت الولايات المتحدة بشكل واضح خلال المحادثات عن قناعتها الكاملة بأن تلك الجماعات لا تصلح لتسلم الحكم في سورية، كما أعربت عن امتعاضها من تفكك "المعارضة" التي لم تستطع الإتفاق على قواسم مشتركة لقيادة مفاوضات في مؤتمر (جنيف2) الذي جرى التوافق على بدء التحضير له، وهو ما أبلغ به المبعوث الأممي الاخضر الإبراهيمي في اللقاء اليتيم الذي تم بينه وبين الوزيرين الروسي والأميركي في المدينة السويسرية، كل ذلك يؤشر الى أن سورية قد أعادت تموضعها السياسي بقوة كدولة مركزية في أي تصور جديد للشرق الأوسط.

شعرت واشنطن أن "المبادرة الروسية" حول الكيميائي يمكن أن تتجاوز بنتائجها فك الإحراج عنها حيال الوعد بشن هجمات عسكرية على سورية، بل تتعداها الى تسليف "إسرائيل" نتائج ما كان سيكلفها ربما حروباً بالجملة، سياسية وعسكرية واستخباراتية، ما قد يفتح الباب بحسب الرأي الأميركي امام التخفيف من حدة التوتر والإحتقان طمعاً بدور سوري جديد في مفاوضات إسرائيلية – عربية تضعها الإدارة في واشنطن في سلم أولوياتها.

نجحت لقاءات القطبين في جنيف في إقرار مقدمات "توازن ردع" إقليمي وربما دولي مرة أخرى والحيلولة دون سقوط العالم في حرب ضروس، ورسمت سقفاً للتصعيد "المجنون"، لكنها لم تفض بعد الى وضع اسس للتخفيف من حدة التوتر العربي – العربي حيث يصر أحد طرفيه على متابعة مسار الفوضى بعقلية "الجاهل المنهزم".    




       


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأزمة بين التسوية والحل

البيان رقم 2: لا اعتذار