الراعي.. زيارة وتداعيات


الراعي.. زيارة وتداعيات
البناء 14 شباط 2013
 محمد شمس الدين

رغم تشديد البطريرك الماروني الكاردينال ما بشارة بطرس الراعي على أن زيارته الى سورية هي رعوية فقط، إلا أنها حملت من الرسائل السياسية ما لم يتوقعه أحد، خاصة في ظل ردود الفعل التي ظهرت عليها من قِبل جماعات المعارضة السورية، والتي تمثل المسلحين من جنسيات عربية مختلفة والذين يقاتلون في سورية بدعم من بعض الدول العربية المتحالفة مع دول غربية، في مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة الأميركية في إطار مشروع سياسي - ديمغرافي يمتد على مساحة المنطقة برمتها.
لم تتوقف ردود فعل تلك الجماعات عند حدّ الاعتراض السياسي وتسجيل الموقف، بل ذهبت الى أبعد من ذلك حين لجأت الى تسريب «تهديداتها» عبر توقعها بأنه قد ينتج عن الزيارة «تداعيات»، الأمر الذي يشير الى إمكانية حصول أعمال عنف ضد المسيحيين في سورية على أقل تقدير، إن لم نقل أن التهديد يشمل كل الوجود المسيحي في الشرق في ظل الانتشار الواسع لـ»حركة الإخوان المسلمين»، بعدما مُكّنوا من مسك السلطة في عدد من العواصم العربية، ودائماً ضمن المشروع نفسه الذي يحاول الأميركيون تمريره لإعادة سيطرتهم على المنطقة وثرواتها، وهذه المرة بأيدي أهلها المتحالفين معهم ومن خلالهم.
لقد شكلت الضربات الموجعة التي لحقت بالقوة العسكرية «الإسرائيلية»، وتراجع هيمنتها المعنوية والمادية بشكل مباشر تارة، وغير مباشر تارة أخرى، السبب الرئيس وراء إطلاق ذلك المشروع «الشيطاني» الذي يهدف الى إعادة رسم خارطة سياسية جديدة وتقسيم المنطقة على أسس تتوافق مع الوضعية الإسرائيلية فيها، وبما يشكل رافعة لـ»الدولة العبرية» ونفوذها ضمن توازنات وتحالفات تقوم على تحقيق «سلام المصالح» لا الحقوق، في وقت يصطدم فيه ذلك المشروع بعقبتين:
الأولى: قيام محور ممانع قوامه تحالف سوري – إيراني أسّس له ما أنجزه حزب الله في لبنان من خلال قتاله العدو الإسرائيلي على مدى أكثر من عشرين عاماً حقق فيها انتصارات كبرى، فرضت توازناً كانت «إسرائيل» قد ظنّت أنها دفنته قبل أن يولد بعد اجتياح لبنان عام ،1982 واقتلاعها منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت وتشتيتها وفرض رؤية سياسية بدأت من «أوسلو» في النروج.
الثانية: ترتبط ارتباطاً مباشراً بتقسيمات المشروع الجديد الإثنية والطائفية، حيث لوحظ أن المنطقة تقوم على أكثريتين، واحدة سنّية ممتدة على جزء كبير من العالم العربي، وأخرى شيعية متداخلة في نقاط مختلفة لايمكن تجاوزها، في حين أسقط المشروع الغربي – العربي أية صيغة لحفظ المسيحيين وجذورهم وتاريخهم وأرزاقهم في المنطقة، وصولاً الى حد التفكير بتهجيرهم منها، حيث عُرض عليهم من قبل الأميركيين مباشرة، وبعدهم الفرنسيين، أن يرحلوا منها، وأن كل الإجراءات تُصبح جاهزة لاستقبالهم ودمجهم في مجتمعاتهم الجديدة وذلك تحت شعار الحرص عليهم.
الاستنتاج الأميركي الذي تحوّل فيما بعد الى عرض قدّم لقيادات مسيحية عديدة في المنطقة وتحديداً في لبنان، قبِل به بعضهم ورفضه بعضهم الآخر، لكن الذين قبلوا به لم يتجرؤوا على طرحه بشكل علني، فيما انبرت الكنيسة الكاثوليكية الى التحقيق بتلك المخططات، وذلك عبر شخصيات لبنانية لم يكن صعباً عليها معرفة حقائق أكثر خطورة عمّا يمكن أن يتعرض له المسيحيون في الشرق وتحديداً في لبنان وسورية، اللذين يشكلان مع فلسطين وحدة جغرافية هي مهد الديانة والإيمان المسيحي، ناهيك عما يشكلانه في الصراع على الحقوق المشروعة بعد احتلال ما زال مستمراً منذ أكثر من 60 عاماً، تاريخ نشوء الكيان الصهيوني في المنطقة.
لم تكن الاعتراضات التي وصلت إلى حد إطلاق الإهانات وكيل الشتائم، على زيارة الكاردينال الراعي الى سورية خارج هذا الإطار، بل إن الصفة الرعوية لها التي حرص صاحبها على وصفها بها، تمّس مباشرة هذا المضمون، كما أنها تعبّر بشكل واضح عن تأييد أكبر مرجعية كاثوليكية لمبدأ الدفاع عن الوجود المسيحي في هذا الجزء من العالم، والذي تشكل الدولة في سورية ورئيسها رأس حربة فيه ولو لم تشمله الزيارة، في حين ربطت مصادر سياسية بين استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر التي أعلن عنها الإثنين الماضي، ولم يكن قد مضى على عودة الراعي من دمشق سوى ساعات، فيما لم تكن زيارة الأخير الى العاصمة السورية لتحصل من دون موافقة فاتيكانية على مستوى «الحبر الأعظم».
وتشير المصادر الى أن هذا الربط ليس وليدة «عقل المؤامرة»، بل استناداً الى معطيات سابقة تعود الى ما قبل أشهر، على الأقل عندما كان الفاتيكان يستعدّ لإرسال وفد من الكرادلة الى سورية تحت عنوان «معلن» هو تقديم «المساعدات الى الشعب السوري»، وآخر «مضمر» هو الإطلاع على أوضاع المسيحيين والطلب الى الحكومة السورية تقديم اقصى أنواع الدعم والحماية لهم، لكن ذلك تعثر في اللحظة الأخيرة بفعل الضغوطات الكبرى التي تعرّض لها الكرسي الرسولي ودوائر الفاتيكان من قبل الحكومة الإيطالية وحكومات أخرى في الإتحاد الأوروبي، إضافة الى الولايات المتحدة الأميركية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأزمة بين التسوية والحل

البيان رقم 2: لا اعتذار