البابا ـ «الإبراهيمي»


البابا ـ «الإبراهيمي»
البناء 17 أيلول 2012
محمد شمس الدين  

البابا في لبنان، ودعوات لا تبتعد عن الحق الذي يريده كل البشر لا سيما المظلومون منهم، لكن البابا الذي وقَّع الإرشاد الرسولي حول استراتيجية المسيحيين الجديدة للمرحلة المقبلة والتي تقوم على الشراكة مع الآخرين لا تنفصل عن الدعوات الإسلامية في هذا الاتجاه مع بروز التطرف من اتباع الدينين الحنيفين، فما فيلم «براءة المسلمين» الذي اثار موجة غضب عارمة في الشارع الإسلامي على امتداد العالمين العربي والإسلامي واستنكار المجتمع الدولي والمسيحيين فيه، الا جزء من هذا التطرف الذي قابله تطرف من نوع آخر تركز برد فعل طال مسيحيين من خلال الاعتداء على مصالحهم دفاعاً عن الإسلام وسط استنكار إسلامي ودعوات الى التهدئة.
لم تنجح النظم والقوانين في كل أنحاء العالم بلجم التعرض للديانات، إن في العالم المتقدم الذي يتمتع بمستوى ثقافي – اجتماعي يفترض بأنه الأعلى مستوى، كذلك الأمر بالنسبة للمجتمعات النامية والفقيرة التي ما زالت تناضل من أجل رفع كفاءة أبنائها الثقافية والتعليمية، ما يظهر أن القوانين المرعية تحتوي على الكثير من الثغرات بما يسمح بتفجير تلك المجتمعات ومكوناتها تحت عنوان «حرية الإعلام والرأي» مثلاً، إذ أن «الإطلاق» في هذه المسألة قد يعد السبب الرئيسي أمام انتشار الفوضى كانتشار النار في الهشيم، في حين أن الروادع الأخلاقية والتعاليم «الدينية» والثقافات المتنوعة ومنها الدعوات الى السلم والحوار بقي تأثيرها محدوداً أمام النزعة الإجرامية والعنصرية لدى القلة المتعصبة الطامحة للسلطة والثروة بأي ثمن.
ما حصل من ردود أفعال في العالمين العربي والإسلامي على الفيلم المسيء للإسلام يبدو فيها الاستغلال السياسي واضحاً وجلياً، وذلك بهدف تأجيج الصراعات لإغراق المنطقة والعالم بالعنف الذي يخدم تدمير المجتمعات المتعددة والمتنوعة إثنياً، ويزيد من شحن النفوس المريضة وهي كثيرة في عالم فقير يسعى الى لقمة عيشه، افساحاً في المجال أمام زيادة فرص استغلال ثرواته والسيطرة عليها، في حين أن هذا السياق يصب بصورة مباشرة في مصلحة الصهيونية العالمية التي ضعف عودها بعد سلسلة الهزائم التي منيت بها الدولة العبرية صاحبة المشروع الاكبر للسيطرة على المنطقة، بعدما استطاعت على مدى أكثر من مئة عام أن تسيطر على معظم مفاصل القرار في أكبر الدول والمنظمات الدولية التي تفصل اليوم في نزاعات دولنا ومجتمعاتنا، ناهيك عن قدرتها على ترجيح كفّة صانع قرار على آخر كما يظهر من خلال الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية حيث يتنافس المتنافسون على خطب ود الجاليات اليهودية في البلاد وأطرها التنظيمية.
ما يؤمن به المسيحيون هو نفسه ما يؤمن به المسلمون ونفسه الذي يؤمن به اليهود في إطار «الإيمان الإبراهيمي الكبير» بحسب تسمية الراسخين في علوم الأديان، وهو الإيمان الذي وضعه الله في سلالة واحدة لحكمة لا يعلمها غيره، غير أن الأزمات الناجمة عن الطمع وحب السيطرة على الحجر والبشر والثروات قد أضاعت بوصلة ذلك الإيمان ووجهته باتجاه الفرقة والتمذهب والتطيف.
ما قاله البابا في لبنان وجّهه الى كل العالم العربي بكل مكوناته لاسيما في المناطق الأكثر سخونة في سورية، حيث يتعرض المسيحيون للذبح والتهجير على أيدي جماعات مسلحة تدعي التدين بالإسلام، لكنها بعيدة كل البعد عنه لأن تلك الجماعات تفعل الفعل نفسه بمسلمين في ذلك البلد وهي ترفع شعارات طائفية ومذهبية وتقدم إغراءات مالية من أجل حشد المقاتلين الذين يتضاءل عددهم مع كل هجمة تقوم بها الدولة عليهم.
لا حاجة لبعض الجماعات الليبية لشعار إسلامي أو فيلم مسيء للإسلام ليشنوا هجوماً على القنصلية الأميركية في بنغازي وقتل سفير الولايات المتحدة وثلاثة دبلوماسيين فيها ليدافعوا عن الإسلام ومنهم جزء يقتل المسلمين والمسيحيين في سورية تحت الشعار نفسه وما ذلك إلا تدليس ونفاق، فالدافع هو «لعبة الدول» التي شاركت فيها الولايات المتحدة منذ الثمانينات عندما لجأت الى التطرف الإسلامي في أفغانستان لمحاربة الروس، لكن سرعان ما تحول هذا التطرف الى وحش انقضّ على معلمه في وقت قريب.
الخطأ نفسه يكرره الأميركيون في المنطقة في مواجهة إيران، في حين أن أصابعهم بدأت تحترق في لعبة لن تبقي ولن تذر إذا استمروا بدعم هذا النهج بتذكية الصراعات الطائفية بعد المذهبية انطلاقاً من سورية، بعدما ظنوا أنهم رسموا معالم الطريق في الدول التي أطلقوا عليها تسمية «الربيع العربي»، وهو الأمر الذي دفع بالبابا الى زيارة المنطقة رغم كل المخاطر المحتملة في محاولة للحد من الانهيار الطائفي الذي وضع له الأميركيون والصهاينة حلولاً تقضي بإلحاق المسيحيين بالمجتمعات الغربية في أوروبا والولايات المتحدة.
ما بدأه البابا- «الإبراهيمي» من لبنان كما ظهر من خلال إرشاده الرسولي وما قاله في خطاباته المتعددة خلال زيارته الرعوية السياسية لا بد أن يتلقفه جيداً المبعوث الدولي الى سورية الأخضر الإبراهيمي في حله لأزمتها، لا سيما وأن دعوة البابا الصريحة لوقف ضخ السلاح الى سورية تعتبر ركيزة أي حل بالنسبة للقيادة السورية التي ترى أن تحقيق هذا الأمر يؤشر بالنسبة لها إلى حسن نوايا الدول التي تدفع بالمسلحين للقتال وتدفع لهم أجورهم وثمن سلاحهم، في حين أن ما يسمى «بمعارضة» هذا البلد قد برز من بينها من رأى بوضوح أن الهدف هو تدمير البلاد وليس إصلاحها وبات على استعداد للشروع بحوار من أجل إنقاذ ما تبقى.
«البابا – الإبراهيمي» مهمة إنقاذ للمنطقة، وربما للعالم من أجل إعادة التوازن المفقود الى السياسة الدولية انطلاقاً من لبنان.. وسورية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأزمة بين التسوية والحل

البيان رقم 2: لا اعتذار